حكمُ مسِّ المحدثِ للمصحف الإلكتروني

  الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعدُ ؛ 

فهذه بحث وجيز في حكم مس المحدث للجهاز الإلكتروني (كالهاتف والتابلت ونحوهما) الذي عليه تطبيق المصحف ، تخريجًا على مذهب السادة الشافعية .
 والكلام هاهنا في : خلاصة ، وأصل مُمَهِّد ، وأربع مسائل .
 أما الخلاصة : فيجوز للمحدث مس الهاتف أو التابلت الموجود عليه تطبيق المصحف ، سواءٌ أكان المصحف ظاهرًا على الشاشة أم لا ، وسواءٌ أكان المس لجدار الجهاز أو للشاشة الظاهر عليها الكتابة ، وسواءٌ أكان المس بالأصبع أو بالقلم المعروف في بعض الأجهزة .
 وأما الأصل الممهد ؛ فإن الجهاز الإلكتروني (الهاتف أو التابلت) إما أن يكون تطبيق المصحف ظاهرًا على شاشته أو أن لا يكون ظاهرًا ، فموضوع بحثنا إنما هو فيما إذا كان ظاهرًا ، أما إذا لم يكن ظاهرًا فلا يتأتى تطبيق أحكام المصحف عليه ؛ إذ ليس مصحفًا في الواقع ، وإنما هي إشارات كهربائية لا دلالة لها ، ثم يقوم الجهاز بترجمتها وتحويلها إلى شيء مكتوب ، فلا يتأتى في ذلك خلافٌ أصلًا ، وإنما موضوع بحثنا هنا إنما هو حال ظهور المصحف على شاشة الجهاز .
 وأما المسائل فهي أربع :
 المسألة الأولى : هل الكتابة الظاهرة من الشاشة تُخَرَّجُ على الكتابة الظاهرة على الأوراق ونحوها؟
 المسألة الثانية : هل يحرم مسُّ جسم الجهاز (كالشاشة والغطاء الخلفي ونحو ذلك) حال كون التطبيق ظاهرًا ؟
 المسألة الثالثة : حكم تقليب صفحات المصحف الإلكتروني بالقلم الموجود في بعض الهواتف ، هل يأخذ حكم التقليب بالأصبع أو لا ؟
 المسألة الرابعة : هل يُفَرَّق بين البالغ والصبي في المس أو لا ؟
===
أما عن المسألة الأولى ، وهي : (هل الكتابة الظاهرة على شاشة الهاتف أو التابلت تُخَرَّج على الكتابة على الأوراق ونحوها) ؟ فبالنظر في مدرك الأصحاب نجد أنهم لا يُحرِّمُون مسَّ مكتوب قرآن إلا ما كان : برَقْمٍ أو نقشٍ أو ختم بقصد القراءة ، الرقم نحو الكتابة باليد ، والنقش نحو ما مثل العلامة الشّبراملسيُّ [في حاشيته على النهاية ج1/ص24] من نقش القرآن على خشبة بقصد القراءة ، والختم الطبع كما قاله الشرواني [في حاشيته على التحفة ج1/ص149] .
والذي يتبدى  والله أعلم  أن الكتابة الظاهرة على الشاشة لا تُخَرَّجُ على أيٍّ من هذه الصور ؛ إذ هذه الإشارات التي ترجمها الجهاز وأظهرها على الشاشة في صورة مقروء ليست كتابة حقيقة ، وإنما هي أشبهُ بصورةِ كتابةٍ ، فأقربُ ما تُخَرَّجُ عليه انعكاسُ صورةِ المصحف في مرآةٍ ، والأصحاب وإن لم يكن لهم نصٌّ في عين هذه المسألة ؛ فإنَّ فروعَهُم دالةٌ على أنَّ المثالَ الثابتَ في المرآةِ لا يأخذُ حكم أصلِه الثابتِ في الخارج .
ومن ثم فلا يحرم مس الظاهر المكتوب على الشاشة ، ومن ثم لا يحرم مس غيره .
===
 المسألة الثانية : هل يحرم مسُّ جسم الجهاز (الشاشة والغطاء الخلفي ونحو ذلك) حال كون التطبيق ظاهرًا ؟
 هذه المسألة وما بعدها سنفرع فيها على التكيفين ، على التكييف الذي ذكرناه في المسألة الأولى ، وهو أن الظاهر على الشاشة ليست كتابة حقيقة فلا يحرم مسها ، وعلى التكييف الثاني وهو أنها كتابة حقيقة يحرم مسها .
أما إذا فرعنا على التكييف الأول (ومقتضاه الحل) : فلا إشكال ، ولا يتأتي الكلام في هذه المسألة ؛ إذ حلُّ مسِّ المكتوب يلزم منه حلُّ مسِّ ما هو منسوب إليه .
وأما إذا فرعنا على التكييف الثاني (ومقتضاه حرمة مس المكتوب) : فلا شك أن جسم الجهاز (الغطاء الخلفي والشاشة) حائلٌ بين اللامس والمكتوب ، ولكن هذا وحده لا يكفي في القول بالتحريم أو بالحل ، وإنما يتوقف ذلك على تكييف جسم الجهاز ، هل يُخَرَّجُ على الجِلْد ، أو على الخَرِيطة ، أو على المتاع الذي فيه مصحف ، أو على الدنانير الأحَدِيَّة ؟ أما الجلد والخريطة فيقدح في تخريجه عليهما في الحرمة أن الجلد والخريطة مختصان بالمصحف منسوبان إليه ، ولا كذلك جسم الجهاز ، وأما الدراهم الأحدية فيقدح في تخريجه عليها في الحل أنَّ مدرك الحل عند الأصحاب كونُ المنقوش فيها لا للقراءة ، ثم هي ليست في معناه ؛ إذ الجسم كالوعاء للمكتوب ، ولكن أقربُ ما يُخَرَّجُ عليه جسم الجهاز هو المتاع ، فمس جسم الجهاز وحمله حال ظهور التطبيق يُخَرَّجُ على حمل المصحف في مَتَاعٍ ؛ إذ جسمُ الجهاز يحوي أشياء أخرى غير المصحف ، ومن ثم يَرِدُ فيه تفصيلُ أصحابِنا بأنه : إنْ قصَدَ المصحفَ وحده حَرُم ، وإن قصد المتاعَ وحده أو قصد المتاع والمصحف لم يحرم .
===
 المسألة الثالثة : حكم تقليب صفحات المصحف الإلكتروني بالقلم الموجود في بعض الهواتف ؟ هل يأخذ حكم التقليب بالأصبع أو لا ؟
أما إذا فرعنا على التكييف الأول (ومقتضاه الحل) فلا إشكال كما سبق .
وأما إذا فرعنا على التكييف الثاني (ومقتضاه التحريم) : فتقليب صفحات المصحف الإلكتروني بالقلم المعروف يتردد تخريجها بين فرعين في كتب المذهب ، الأول : حِلُّ تقليب ورق المصحف بعودٍ ونحوه كما هو المعتمد في المذهب ، الثاني : ما لو قُطِع أصبعه فاتخذ أصبعًا من ذهب ، هل يحرم مسُّ المصحف بهذه الأصبع التي اتخذها ، والذي يتبدى  والله أعلم  أنه يقوى تخريج تقليب المصحف بالإلكتروني بالقلم المعروف على تقليب ورق المصحف بعود ؛ إذ أصبعه منسوبٌ إليه ، بخلاف العود والقلم ونحوهما ، بل التقليب بالقلم الملحق بالهواتف أولى بالجواز  ولو على تفريع التحريم  من التقليب بالعود ؛ إذ مدرك المخالفين في الحِلِّ من أصحابنا  كما ذكره الزركشي في «خادم الرافعي والروضة» [ج1/ق127/دار الكتب]  أن التقليب حمل للورقة ، ولا كذلك التقليب بالقلم على الهاتف .
===
المسألة الرابعة : هل يفرق بين الصبي والبالغ في هذا الحكم ؟
أما إذا فرعنا على التكييف الأول (ومقتضاه الحل) : فلا فرق بين الصبي والبالغ .
وأما إذا فرعنا على التكييف الثاني (ومقتضاه التحريم) : فإنه يفرق بين الصبي والبالغ ؛ إذ لا يمنع الصبيُّ المميّزُ المحدثُ من مس المصحف وما يلحق به كالجلد والخريطة ونحو ذلك ، ولا اللوح ؛ وذلك لحاجة تعلمه ، فكذلك الهاتف الذي يظهر على شاشته المصحف ، مع العلم أن محل الجواز إنما هو الحمل المتعلق بالدراسة ونحوها ، أما إذا كان الحملُ لا لغرضٍ حَرُم كالبالغ .
ولكن ، هل يقاس :على حلُّ مسِّ الصبيِّ المحدث للجهاز الذي عليه تطبيق القرآن لحاجة التعلم حله للبالغ المتعلم للقرآن ؟
لا يقاس ؛ ذلك أن مدرك الأصحاب في إجازة ذلك للصبي حاجة تعلمه ومشقة استمراره على الطهارة ومشقة إلزامهم بذلك ، ولا كذلك البالغ .
 الخلاصة : يجوز مس الهاتف أو التابلت الموجود عليه تطبيق المصحف ، سواءٌ أكان المصحف ظاهرًا على الشاشة أم لا ، وسواءٌ أكان المس لجدار الجهاز أو للشاشة الظاهر عليها الكتابة ، وسواءٌ أكان المس بالأصبع أو بالقلم المعروف في بعض الأجهزة .
 أما من كان يعتقد أن الكتابة الظاهرة على الشاشة كتابة حقيقة ، خلافًا لمن سبق أن ذكرناه ، فيسعه مس الجهاز وتقليب صفحات المصنف بالقلم المعروف ؛ إذ حمل المصحف في أمتعة جائز ، وتقليب ورقه بعود ونحوه جائز ، على المعتمد عند السادة الشافعية .

وصلى الله على النبيِّ محمد، وسلّم تسليمًا كثيرًا ...
المقال للعلامة محمد سالم بحيرى

Comments