اباحة النكات المضحكة والرد على ادلة المانعين لعلامة العصر حاتم العونى

  أرسل أحدهم يسأل :

    «شيخنا :ما معنى هذا الحديث: قوله رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : "ويلٌ للذي يحدِّثُ فيكذب ليضحك به القوم، ويلٌ لهُ، ويلٌ له"» .

    والجواب :

    معناه يتبين إن عرفنا أن الكذب الذي قد يكون إثما : هو الخبر المخالف للواقع مع قَصْدِ المخبِر به أن يتوهم سامعُه منه موافقته للواقع (أي يتوهم صِدْقَه) ، أو أن المخبِر قصّر في البيان عن مراده تقصيرًا لا يُعذر في مثله ، حتى أوهم إرادة حكاية الواقع . أما من يحكي لك قصة وهو يعلم أنك تعلم أنها ليست واقعية ، فما أراد هذا قط أن تتوهم صدقها ، بل هو يعلم أنك تدرك أنه لم يُرِد إخبارَك بواقعة حقيقية : فهذا ليس كذبا أصلا .

    وهذا المعنى للكذب لن أكون محتاجا لإثباته بذكر من سبقني إليه من علماء اللغة أو غيرهم ؛ لأنه مما تدركه العقول السليمة . وأما من جمد ذهنه وتطلّبَ الدليل على المعاني البدهية ، فسيجد بعضها في هذا المقال . ولكني أنصحه قبل بيان أدلة معنى (الكذب) أن يحاول حلحلة صمامات التفكير لديه ، وأن يسمح لحرارة إعمال الذهن أن تذيب جمود فكره ، لكي يدرك أن عدم النقل لا يعني عدم الصحة ، خاصة في البدهيات !

    ومع ذلك فقد قرر شيئا من ذلك غيرما عالم سابق :

    منهم الفقيه أبو بكر الصيدلاني الشافعي  - مُحَمَّد بن دَاوُد بن مُحَمَّد الدَّاودِيّ - (ت427هـ) ، حيث قال عن خروج الشاعر إلى حد الكذب في وصفٍ أو مدح وإطراء :  «  هذا لا يلتحق بالكذب؛ فإن الكذب من يُخبر ويُري الكذبَ صدقًا، والشعر صناعة، وليس غرض الشاعر أن يُصدَّق في شعره، فليس إذن من الكذابين » . نهاية المطلب للجويني (19/ 25).

    ومنهم ابن الوزير الصنعاني (ت840هـ) : حيث قال في كتابه (الروض الباسم : 2/ 440) خلال بيانه أن (المجاز) ليس كذبًا : " إن الكذب هو : ما قصد المتكلِّم به إيهامَ السامع ما ليس بصدق ، والمتجوِّز لم يقصد ذلك . وهذا هو الفرق بين الاستعارة والكذب ، كما ذكره أهل البيان" .

    ومنهم الكفوي في (الكليات) ، حيث قال : « الكذب : الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو ، مع العلم به ، وقَصْدِ الحقيقة . فخرج بالأول : الجهل، وبالثاني : المجاز» .

    قلت : وخرج بـ(القصد) أيضًا كلُّ خبرٍ ما قُصد به إيهام وقوع واقعة لم تقع ، كالطرف والنكات .

    على أن الإخبار بخلاف الواقع بغير تعمد الكذب وهو الخطأ : يُسمى كذبًا أيضا في اللغة ، لكن لا يقال عن صاحبه إنه كذاب ، وإن صح وصف الفعل بأنه كذب ، ولا يكون هذا المخطئ آثما بسبب عدم تعمده .

    وقبل ابن الوزير والكفوي قد قال الإمام الغزالي في (إحياء علوم الدين) : « ومن الكذب الذي لا يوجب الفسق: ما جرت به العادة في المبالغة ، كقوله : "طلبتك كذا وكذا مرة" ، و : "قلت لك كذا مائة مرة" ، فإنه لا يريد به تفهيم المرات بعددها ، بل تفهيم المبالغة . فإن لم يكن طلبه إلا مرة واحدة ، كان كاذبا ، وإن كان طلبه مرات لا يُعتاد مثلها في الكثرة لا يأثم ، وإن لم تبلغ مائة . وبينهما درجات ، يتعرض مطلق اللسان بالمبالغة فيها لخطر الكذب» .

    وقد لخص ابن حجر الهيتمي كلام الغزالي بقوله في (الزواجر عن اقتراف الكبائر) : «وليس من الكذب المحرم ما اعتيد من المبالغة : كـ"جئتك ألف مرة"؛ لأن المراد تفهيم المبالغة ، لا المرات . فإن لم يكن جاء إلا مرة واحدة : فهو كاذب».

    ولو أن كل إخبار بخبر لم يقع يكون كذبا ، حتى لو كان يعلم السامع عدم وقوعه ويعلم المتكلم أن سامعه يعلم بعدم وقوعه ، لكان ضَرْبُ الأمثال كذبا ، وحكاية القصص على لسان الحيوانات كذبا ، ولكانت المجازات والتشبيهات كلها كذبا ؛ لأن المشبَّه لن يطابق المشبّه به من كل وجه !! وهذا التوسيع لمعنى الكذب كان يجب أن لا يقول به عاقل ! إلا أن جمود العقل وشدة الجهل وجرأة أهلهما هما ما أوقعا بعض العقلاء فيما لا يقع فيه عاقل! كما سيأتي في كلام الإمام أبي أحمد الكرجي القصاب .

    فمن الأدلة على أنه ليس كل إخبار بما لم يقع معدودًا في الكذب : ما يلي :

    أولا : ضرب الأمثال :

    فقد ضرب الله تعالى أمثالا ، لا على أنها قد وقعت ، ولكن لأخذ العظة منها ، كقوله تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

    وأمثلة ذلك كثيرة في الكتاب والسنة ، وفيها خبر لا يُراد منه تصديق الوقوع أصلا ، وإنما يُراد منها العبرة والعظة من المثل المضروب .

    ألا ترى أيضًا إلى قوله صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح - عندما خط خطوطا ، ثم قال : «هذا الأمل ، وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب» . إذ لا يشك عاقل أن تلك الخطوط التي خطها النبي صلى الله عليه وسلم ليست هي الأمل والأجل، ومع ذلك لا يشك عاقل أن هذا لم يكن من الكذب في شيء ، رغم إشارته صلى الله عليه وسلم إلى تلك الخطوط دون أداة تشبيه : أنها هي (الأجل) و(الأمل) ؛ لأن السامع يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد إخبارا بواقع تلك الخطوط ، وإنما أراد ضرب المثل .

    ثانيا : المعاريض : وهي أن يوهم المتكلِّم أنه يريد معنى من المعاني، وغرضه معنى آخر غير ما توهمه السامع .

    وفي المعاريض صح عن عمران بن حُصين (رضي الله عنه) أنه قال : «إن في المعاريض لمندوحةً عن الكذب» ، أي : إن فيها لمتسعا من أن تقع في الكذب الصريح . وهي نوع من التورية . وهي رغم أنها قد توهم السامع خلاف الحقيقة ، وأن المعرِّضَ بها قصد إيهام سامعه خلاف الواقع ، مع ذلك جازت ، لدفع مفسدة أعظم من مفسدة متوقعة من ذكر الصدق الصريح ، وكانت أطيب على نفوس أهل الورع من الاضطرار للكذب الصريح ، وإن جاز لهم للضرورة .

    مع التنبُّـهِ إلى أن المعاريض هي إخبارٌ يوهم سامعَها بخلاف الحقيقة ، ولذلك ستكون المعاريض كذبًا محرَّمًا إذا استُعملت في باطل ، كشهادة باطلة أو يمين كاذبة ، وفي تحريم هذا النوع من المعاريض جاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم –في صحيح مسلم - أنه قال : «يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك». مما يبيّن أن جنس المعاريض من جنس الكذب ؛ لأنها إيهام بخلاف الواقع . وإنما جازت للحاجة أو الضرورة ، وفي الحق ، لا في الباطل . وهي ما أقربها في هذه الاستثناءات من عموم الكذب الذي يجوز إذا لم تندفع المفسدة الأعظم منه إلا به .

    ولكون المعاريض من جنس الكذب فسّرها أبو عبيد القاسم بن سلام (ت224هـ) في (غريب الحديث) بقوله : « والمعاريض : أن يريد الرجل أن يُكلم الرجلَ بالكلام الذي إن صرَّح به كان كذبا ، فيعارضه بكلام آخر ، يوافق ذلك الكلام في اللفظ ، ويخالفه في المعنى، فيتوهم السامع أنه أراد ذلك . وهذا كثير في الحديث» .

    فمن المعاريض قوله تعالى حاكيا عن سيدنا إبراهيم عليه السلام قوله {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} ، وأراد : "بل فعله كبيرهم هذا، إن كانوا ينطقون" ، فجعل النطق شرطا للفعل ، وهو لا ينطق ولا يفعل ، (كما قال ابن قتيبة) .

    وقد تُستعمل المعاريض وتجوز من غير اضطرار ولا مع تحقق مفسدة مترتبة على التصريح ، بل من باب المزاح ، كقوله صلى الله عليه وسلم وهو يحتضن زاهرا رضي الله عنه (وهو أحد الصحابة الأعراب الفضلاء) على وجه المزاح :«من يشتري العبد؟!» ، فقال زاهر - وكان دميم الصورة - : يا رسول الله ، إذن والله تجدني كاسدا [أي لن أُشترى إلا بثمن بخس]، فقال صلى الله عليه وسلم : «لكنك عند الله لست بكاسد (أو قال :) لكنك عند الله غال» . فرغم أن كلمة «من يشتري العبد» توهم أن زاهرا رقيق مملوك ، حيث لا يُنادى في البيع على غير العبيد المملوكين ؛ إلا أن هذا الإخبار الذي يوهم خلاف الواقع لم يكن كذبا ؛ لأنه من المعاريض التي تجوز في حالات ، إذا لم تترتب عليها مفسدة ، كحالة المزاح هذه . 

    ومن ذلك قوله تعالى حاكيا ما حصل في قصة يوسف عليه السلام مع إخوته {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} ، مع أنهم لم يسرقوا ، لكنه عليه السلام أوهمهم أنهم سرقوا ، وجاز له ذلك ، لمصلحة عظيمة أظهرتها بقية القصة . ولذلك استنبط من هذه الآية الإمام السُّني أبو أحمد الكرَجي القصاب (المتوفى نحو سنة 360هـ) هذا الاستنباط ، وهو قوله في كتابه (النكت والبيان) : «حجة في جواز المعاريض، بل في إباحة الكذب فيما دعا إلى الصلاح والخير، ودفع الحرج فيه. وزوال المأثم في تكريره، وهو يؤيد حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " لا يصلح الكذب إلا في ثلاث ، أحدها: في الإصلاح بين الناس " ، ودليل في أن الوصول إلى الحقوق وصلاح ذات البين مباح بالحيل» . انتهى كلامه .

    وفي قوله تعالى حاكيا كلام الملك الذي جاء إلى داود عليه السلام : {  إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} ، قال أبو أحمد الكرجي أيضا : «دليل واضح غير مشكل على إباحة المعاريض، فإنها غير معدودة في عداد الكذب».

    وفي قصة الملك الذي بعثه الله تعالى إلى الرجال الثلاثة : الأقرع والأبرص والأعمى ، فتصور لكل واحد بصورته ، ثم قال له : « رجل مسكين، تقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيرا أتبلغ عليه في سفري .. » ، إلى آخر الخبر ، وفيه خبرٌ مخالفٌ للواقع أخبر به ملَك من الملائكة! ما يبيّن أن الخبر المخالف للواقع (وهو الكذب) ، إن كان في عِلْمِ المخبِر أن السامع سيعلم بحقيقة الخبر ، وأنه لن يضره بخبره ذاك، فهو ليس من الكذب المحرَّم في شيء، بل تسميته بالكذب حينها توسع في الإطلاق ، مما يعني أنه ليس كل إخبار بخلاف الواقع كذبا بإطلاق .

    فإن عدنا إلى الطُّرف (النكات) ، وحتى تعلم بُعد أخبار الطُّرف (النكات) عن أن تكون من الكذب أصلا ، فضلا عن أن تكون مما توعّد النص عليه بـ(الويل) كما في الحديث المسؤول عنه : تصور لو قال لك حاكي الطرفة (النكتة) : "سأحكي لك قصة غير صحيحة ولا هي مما وقع" ، ثم قصّ عليك النكتة ، هل سيكون بذلك كاذبا ؟ وهو نفسه قد أخبرك خبرا صريحا أن طُرفته ليست حقيقية ؟ فإن كان ليس بكاذب بذلك (كما يجب أن يقول ذلك كل عاقل) ، فسيكون هذا هو حال كل خبر عُلم من سياق حكايته أنه لم يُسق من أجل تَوهُّمِ وقوعه ، وإنما سيق من أجل الإضحاك به فقط ، مع العلم القطعي لدى السامع بأنه لم يقع . وهو بذلك أولى بالجواز من المعاريض : التي توهم السامع بخلاف مراد المتكلِّم .

    وكذا هو الحال في كل ما كان معلوما من سياق القصة ومن العرف الجاري في حكاية الأخبار ، والذي يقوم مقام التصريح : أنه لم يقع ، لن يكون من الكذب في شيء ؛ لأنه ليس خبرا عن واقع أصلا ، حتى يُقال : إن مخبِرَه قد كذب بإخباره بخلاف الواقع .

    وأما الحديث المسؤول عنه : فهو (أولا) لا يتجاوز درجة الحسن ؛ لأنه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده . وثبوت لفظ الحديث الحسن دون درجة ثبوت لفظ الحديث الصحيح ، ولذلك لا يكاد يُعتمد عليه في الاستقلال بحكم لم يرد في غيره ، خاصة إن انفرد به ، وبالأخص إن خالف الأصول .

    ولذلك إن قبلنا لفظ الحديث ، فلا بد من تنزيله على القصص الكاذبة التي قد يتوهم الناس صدقها ، ويكون في القصة أذية لمسلم بغيبة أو قذف أو التي تثير  النعرات والفتن أو التي تتجاوز ذلك إلى السخرية بالله تعالى أو برسوله صلى الله عليه وسلم أو بحكم شرعي .

    والذي يوجب مثل هذا التأويل ، فوق ما سبق من بيان معنى الكذب ، وأن الطرائف ليست كذبا أصلا : هو التنبه إلى أن الكذب منه ما هو من الصغائر ومنه ما هو الكبائر ، وليس كله من الكبائر ، وإنما يكبر بتعاظم مفسدته أو بغلبته على حديث المتكلّم على وجه الاستخفاف كاستخفاف مرتكب الكبيرة . والحديث المسؤول عنه قد تضمن وعيدا شديدا، مما يدل على أن المقصود بالكذب المتوعَّد عليه كذبٌ من كبائر الذنوب ، وكذب النكات (لو سميناه كذبا) وخلا عن مفاسد أذية المسلمين ونحوها من المفاسد ، لن يكون له مفسدة ظاهرة أصلا ، فضلا عن مفسدة عظيمة ، فلا يمكن أن يكون من الكبائر ، مما يُوجب تأويل الحديث على كذب من الكبائر ، دونما سواه. ولا يمكن أن يُفهم الحديث بعرضه على أصول الشرع إلا على هذا التأويل ؛ لأن ادعاء أن أي كذب بقصد الإضحاك كبيرة يخالف ما عرفناه من واقع الكبائر المتفق عليها أنها من الذنوب التي تعظم مفسدتها : كالقتل والعقوق وشهادة الزور .

    وبعد هذا البيان لحكم الطُّرف (النكات) ، أودّ أن يعلم القارئ أني قررت هذا التقرير وأنا على علم بكلام من خالفت : كظاهر فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية (32/ 255- 256)، وفتاوى غيره من المعاصرين ، وعلى علم بكلام شراح الحديث : من ضيّق منهم ومن تجاوز ، وإنما بينت ما أقطع به بما بينته بالدليل .

    فتحريم الطُّرف (النكات) مطلقا بحجة أنها كذب ، واستدلالا بهذا الحديث = خطأ مقطوع به ؛ لأنها ليست كذبا أصلا ، ولا تدخل في دلالة الحديث لو صح لفظه بإطلاقه الذي هو عليه .

    وعذر من أخطأ في تحريمها عندي مبسوط ، وسبب التمسك بما توهموه من ظاهر الحديث مفهوم ، ولكن ذلك لا يجعل قولهم معتبرًا ، ولا فهمهم وجيهًا .

    وأجد في هذه المسألة –على سهولة أمرها –امتحانًا صعبا ، وتدريبًا مرهقا ، للتراثي العاجز عن تصفية التراث الاجتهادي من أخطائه الواضحة ، فإن عجز عن تصفيته في مسألة (النكات) على سهولة أمرها وعدم تَرتُّبِ مفسدةٍ عليها وعلى وضوح الخطأ فيها ، فكيف نأمل من هذا المعتصم بالتراث البشري - اعتصام المتعصب له - أن يقدر على تصفيته من أخطاء عقدية أو في الأحكام الكبرى ؟!!

    كما أنني إنما أطلت هذه الإطالة في الجواب عن هذه المسألة : من أجل أن أعين على إنهاء خلاف في مسألة لا أكاد أعلم أحدًا من المسلمين إلا وهو واقع فيها ، أن يحكي طرفا أو يستمعها ضاحكا راضيا ، ومع ذلك يُشاع بينهم أنها حرام ، بل أنها من الكبائر : «فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويل لمن يضحك الناس بما لم يقع » !

    فأي بؤس سنصيب الناس به بمثل هذه الفتوى التي لا يستطيع أحدٌ التزامها ؟! بل ليس مطلوبًا من أحدٍ التزامها !!

    وأي تشويه لصورة الإسلام عندما نجعله مصادمًا فطر الناس بمثل ذلك الإطلاق ؟!

    وأي تضييق لما وسّع الله تعالى لو حرمنا عليهم تلك الطرف إنشاءً أو سماعا ؟!

    حان الوقت لكي نكون واضحين في تخطيء الخطأ في تراثنا بكل وضوح ، خاصة إذا مسَّ حياة الناس بالتضييق والحرج .

    وتالله إني لأعلم أن أكثر المسلمين اليوم ، ومنهم كثير من طلبة العلم ، سوف يستغرب من خوضي في هذه المسألة أصلا ، وسيحسب أني قد عظّمتُ تافها وكبّرتُ صغيرًا ، وله الحق في ذلك . لكنه لا يعلم دخائل ما يدور في مجالس وفتاوى كثير ممن يفتي هذه الأيام ، من تقليد بعض السابقين ممن أطلق القول بتحريم الحكايات غير الواقعية . ولا يعلم أن لذلك الفهم المجانب للصواب أثرًا كبيرًا عندهم على تحريم فن الرواية والقصة أيضًا ، وعلى تحريم التمثيل ، فهو أحد أدلة تحريم التمثيل أيضًا عند هؤلاء .

    ومرجع هذه الفتاوى الغريبة هو :

-       عدم تأملهم لحقيقة الكذب : ما هو ؟

-       وتمسكهم بما ظنوه ظواهر معتبرة لبعض النصوص .

    وقد حرصت في هذا التوضيح أن أبيّن خطأهم في معرفة حدود الكذب المحرّم ، وفي تصويب فهمهم لظواهر بعض النصوص .

    وأرجو أن أكون قد وُفقتُ في البيان ، فالناس قد ضاقوا بهذه الفتاوى ، وصُوِّرَ الإسلام وكأنه يعادي الفنون المباحة التي هي قوة وسلاح مع كونها جمالا ومتعة وزينة .

    والله أعلم .


تاريخ النشر : 1439/02/23 هـ

Comments