مناقشة استدلال المحرمين لعيد الام بحديث من تشبه بقوم فهو منهم وبيان ضعفه

 مناقشة استدلالهم بحديث: «من تشبَّه بقومٍ فهو منهم» .

أما عن استدلالهم بحديث: «من تشبَّه بقومٍ فهو منهم» فنناقشهُ من وجهين: وجهٍ دلالي، ووجهٍ ثبوتي.
أما الوجهُ الدلاليُّ: فإنَّ الفقهاءَ رغم استدلالهم بهذا الحديث في المُدَوَّنات الفقهية؛ فإنهم لا يطردون بموجبه استصحاب التحريم، بل تارة بستدلُّون به، ويحكمون بالكراهة، وتارة يستدلُّون به ويحكمون بالتحريم.
وليس هناكَ طاردلعموم الحديث، أي: بأنَّ كل تشبُّه مؤدٍّ للحكم بالتحريم.
فالاستدلال بمحضِ هذا الحديث على التحريم غلطٌ مجانبٌ لطريقة الفقهاءِ، بل لا بد من ضميمةِ معنى زائدٍ.
فعلى سبيل المثالِ؛ السّادة الحنفية يذكرون هذا الحديث في كتاب الصلاة في مسألة كراهة أن يقوم الإمام وحده في المحراب؛ لِمَا فيه من تشبُّه بأهل الكتاب، وينصون على كراهة تغطية الفم وكراهة التمايل في الصلاة، ويعللون بالمخالفة لليهود؛ كما نصَّ عليه العلامة العينيُّ في «البناية» (2/451)، وينصون في مواضع أخرى على التحريم مستدلين بالحديث، كنصِّهم على تحريم القراءة من المصحف في الصلاة وبطلان الصلاة بها، وليس هذا من تناقضهم رحمهم الله، بل من دقة نظرهم في المدارك.
فليس النظرُ إلى هذا الحديث فحسب، وإنما النظرُ إليه مع ضميمة المدارك الأخرى التي قد ترتفع بالفعل فتجعله محرمًا، أو تنزل به إلى مرتبة الكراهة أو خلاف الأولى.
وكذلك نجد السادة الحنابلة يذكرون الحديث في مدوناتهم الفقهية، فيستدلون به تارة على الكراهة التنزيهيّة، وتارة على التحريم، فينصون على كراهة حلق القفا كراهة تنزيهية؛ لما فيه من التشبه بالمجوس، ويذيلون بالحديث، وينصون على كراهة شد الوسط بزنار في الصلاة كراهة تنزيهية؛ لما فيه من التشبه بأهل الكتاب، وينصون على كراهة التزيي بزي أهل الشرك كراهة تنزيهية؛ مستدلين بالحديث، ثمَّ نصوا على حرمة لبس زنارٍ كشعار لأهل الكفر؛ مستدلين بالحديث .
وكذلك أصحابنا الشافعية يذكرون الحديث في مدوناتنا الفقهية، ثم يفصلون بين ما إذا قصد التشبه بهم في أمرٍ فيه وجهُ تعبُّد من حيث إنه شعارُ كفرٍ تعظيمًا لدينهم = فيكفر، أو قصد التشبه في أمرٍ فيه وجه تعبُّد لا من حيث إنه شعارُ كفرٍ فيأثم، أو لم يقصده أصلًا ولا رأسًا فلا يكفر، ولا يأثم، كما سبق ذلك عن العلامة ابن حجر الهيتميِّ رحمه الله.
وكذلك السادة المالكيّة؛ فإنَّ أبا العباسَ القرطبيَّ أجرى هذا الحديث في كلِّ من حادَ عن سبيل الله؛ كأهل الفسق والدعارة والمجون، ونصَّ على أنهم لو اختصوا بلون ثيابٍ أو حالٍ فيها كره لنا مشابهتم فيها تنزيهًا، واستدلَّ بهذا الحديث؛ كما صرَّح به في «المفهم».
الحاصل أن الاستدلال بمحض هذا الحديث على تحريم التشبُّه فيه نظرٌ، بل لا يستدلُّ به الفقهاءُ على التحريم إلا مع ضميمة معنى زائدٍ، نحو كون المتشبه فيه شعارَ كفر أو أو فيه وجهُ تعبُّد، أما أمرٌ متعلق بالعادات فلا يستدلُّون به على التحريم.
وأما عن الوجهِ الثبوتي فإنَّ هذا الحديث ضعيفٌ لا يثبت، على خلافٍ فيه.
ولسنا نقولُ ذلك لنطرح دلالتَه، فليست هذه طريقة أصحابنا، ولا طريقة أكابر الفقهاءِ، وإنما لتحقيق المسألة من الناحية الحديثية، ومن جهة إلزام الخصمِ إذا كان يلتزم طرح الحديث إذا ضعف إسناده، وهو مهيعٌ مسلوكٌ في علم الجدل.
وهاك تحقيق المقام:
فقد وردَ هذا الحديث من ثمانية طرقٍ، روي من حديث ابن عمرَ، وطاووس، وحذيفة بن اليمان (جاءَ عنه من ثلاث طرق)، وأنس بن مالكٍ، وأبي أمامة الباهليِّ.
أما حديث ابن عمر رضي الله عنه:
فقد أخرجه أحمدُ في «مسندِه» (9/123) وعبد بن حميد في «مسندِه» (ص267) وابن أبي شيبة في «مصنفه» (4/212) وأبو داود في «سننه» (4/78) وأبو يعلى في «مسندِه» [كما في «إتحاف الخيرة المهرة» (4/484)] والدينوريُّ في «المجالسة وجواهر العلم» (1/460) وابن الأعرابيِّ في «معجمِه» (2/576) والطبراني في «الكبير» (13/317) و«مسند الشاميين» (1/135) وتمام الرازيُّ في «فوائدِه» (1/308) والبيهقيُّ في «شعب الإيمان» (2/417) والخطيب البغداديُّ في «الفقيه والمتفقه» (2/142) وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (67/257) من طريقِ: أبي النضر هاشم بن القاسم ومحمد بن يزيد الواسطي وسليمان بن داود الطيالسي وغسان بن الربيع الأزدي ومحمد بن يوسف الفريابي وعلي بن عياش الحمصي، سِتَّتهم عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان قال: حدَّثَنِي حسان بن عطية عن أبي المنيب الجُرْشي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «بُعِثت بين يدي السَّاعة مع السيف، وجُعِل رِزقي في ظلِّ رُمحي، وجعل الذل والصغار على من خالَفَ أمري، ومَنْ تشَبَّهَ بقومٍ فهو منهم».
ورواه البخاريُّ (4/40) مُعَلَّقًا مختصرًا بصيغة التمريض في «باب ما قيل في الرماح»، فقال: «ويُذكَرُ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: جعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري» .
وإسنادُه ضعيفٌ؛ فقد صدَّره البخاريُّ رحمه الله بصيغة التمريض، وهي قولُه: «ويذكر»، وقد نصَّ الحافظُ ابن حجر رحمه الله في غير موضعٍ على أنها صيغة تمريض عنده، يأتي بها لضعف الحديث عنده أو لروايته الحديث بالمعنى أو اختصارِه، وقال في «تغليق التعليق» (3/446) عقب وصلِه: «وأبو مُنيب لا يُعرَفُ اسمُه، وقد وثقه العجليُّ وغيرُه، وعبد الرحمن بن ثابت مختلَفٌ في الاحتجاج به».
وكذا ضعفه الزيلعيُّ في «نصب الراية» (4/347)، والمنذريُّ في «مختصر أبي داود» (3/24)، وأعلَّاه بعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان.
أما الحافظ ابن حجر رحمه الله فحسَّنه في «الفتح» (10/271) في موضعٍ آخر، وكذا جَوَّد إسنادَه ابن تيمية رحمه الله كما في «الاقتضاء» (ص269).
أما الذهبيُّ رحمه الله في «السير» (15/509) فقال: «إسنادُه صالحٌ»، والذهبيُّ يطلق هذه العبارة في الإسناد اللين الذي وردَ له طريقٌ أخرى أو أكثر تعضده، فقد قال في بيان مراتب أحاديث «سنن أبي داود» في «السير» (13/214) : «فكتابُ أبي داود أعلى ما فيه من الثابت ما أخرجه الشيخان، وذلك نحو من شطر الكتاب، ثم يليه ما أخرجه أحدُ الشيخين، ورغب عنه الآخر، ثم يليه ما رغبا عنه، وكان إسنادُه جيدًا، سالمًا من علة وشذوذ، ثم يليه ما كان إسنادُه صالحًا، وقبله العلماء لمجيئه من وجهين ليِّنين فصاعدًا، يُعَضِّد كلُّ إسنادٍ منهما الآخر، ثم يليه ما ضعف إسنادُه لنقص حفظ راويه، فمثل هذا يُمشِّيه أبو داود، ويسكت عنه غالبًا، ثم يليه ما كان بين الضعف من جهة راويه، فهذا لا يسكت عنه، بل يوهنه غالبًا، وقد يسكت عنه بحسب شهرته ونكارته» .
وأما العراقيُّ رحمه الله في «تخريج الإحياء» (2/676): «رواه أبو داود من حديث ابن عمر بسندٍ صحيحٍ»، وكذا الألباني رحمه الله صححه في «الإرواء» (5/110).
وسببُ الخلافِ في تصحيح الحديث وضعفه علتان وقع فيهما الخلافُ بين النقادِ، الأولى : إعلال الحديث بأبي المنيب الجرشي، الثانية: إعلالُ الحديث بعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان.
وأما أبو المنيب الجرشيُّ فقد أعلَّ الحديثَ به محمد بن خفيف الشيرازي، فقال بعد رواية هذا الحديث في «شرف الفقراء على الأغنياء»: «حدَّثُونا عن العقيلي ثنا آدم بن موسى سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: أبو المنيب ليس بشيءٍ» .
وقد ردَّ الحافظُ العراقيُّ هذا الانتقادَ، ووهَّم الشيرازي فيه، فقال في «ذيل الميزان» (ص129): «وهذا وهمٌ من محمد بن خصيف، في ظنه أنَّ راوي هذا الحديث هو الذي تكلم فيه البخاري، والذي تكلم فيه البخاري هو عبيد الله بن عبد الله العتكي المروزي؛ كما ذكره العقيلي في (الضعفاء)، وأورده الذهبي في (الميزان) بعدهما في الأسماء فيمن اسمه عبيد الله، وأما أبو المنيب الجُرشي فلا يعرف اسمه كما قال أبو أحمد الحاكم في (الكنى)، وذاك مروزي، وهذا شامي ذكره العجلي في الثقات فقال: (شامي تابعي ثقة)، وذكره ابن حبان في الثقات».
فأبو المنيب هنا ليس المروزي، وإنما هو الشامي، الذي وثقه ابن حبان والعجليُّ، وقال ابن عبد البر (11/76): «ليس به بأس»، أما ابنُ أبي حاتمٍ فذكرَه في «الجرح والتعديل» (9/440)، ولم يذكر جرحًا ولا تعديلًا.
أما عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان الذي أعلَّ الحديثَ به الزيلعيُّ والمنذريُّ؛ فقد ضعَّفه جماعةٌ كثر من النقادِ.
ضعفه الإمام أحمد مع ثنائه على عبادَتِه، قال أحمد بن حنبل: «أحاديثُه مناكير»، وقال: «لم يكن بالقويِّ في الحديثِ»، وقال: «وكان عابد أهلِ الشام»، وقال ابن معين: «ضعيف»، وقال مرَّة: «لا شيءَ»، فقال له معاوية بن صالح: «يكتب حديثه»، قال: «نعم على ضعفه، وكان رجلًا صالحًا»، وقال النسائيُّ: «ضعيف»، وقال مرَّة: «ليس بالقويِّ»، وقال مرة: «ليس بثقة»، وقال ابن خراش: «في حديثه لينٌ»، وقال ابن عدي: «له أحاديثُ صالحةٌ، وكان رجلًا صالحًا، ويُكتَبُ حديثُه على ضعفه».
أما عليُّ بن المدينيِّ فقال: «رجل صدق لا بأس به، وقد حمل عنه الناس»، وقالَ أبو داود: «كانَ فيه سلامة، وليس به بأس، وكان مجابَ الدعوة»، وقال ابن معين في رواية أخرى للدوري: «ليس به بأس»، وقال العجليُّ: «شاميٌّ لا بأسَ به».
ووثقه أبو حاتم فقال: «ثقة»، وقال في موضعٍ آخر: «يشُوبُه شيءٌ من القدر، وتغيَّر عقلُه في آخرِ حياتِه، وهو مستقيمُ الحديث»، وقال دحيمٌ: «ثقة يرمى بالقدر»، وذكره ابن حبان في «الثقات».
والذي يتبدى والله أعلم: أنه شيخٌ وسطٌ، يكتبُ حديثُه، ولا يحتجُّ بما تفرَّد به، وهذا ما مالَ إليه الذهبيُّ رحمه الله، حيث قال في «السير» (7/314) في خاتمة ترجمتِه: «وقد تتبَّعَ الطبراني أحاديثه، فجاءت في كرَّاسٍ تام، ولم يكن بالمُكثر، ولا هُو بالحُجَّة، بل صالحُ الحديث»
الحاصل إذن: أن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان شيخٌ وسط، يعتبر به، ولا يحتج به إذا تفرَّد .
وقد جاءت رواية هنا تُوهم أن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان لم يتفرَّد بالحديث، بل توبع، تابعه الأوزاعي، فقد أخرج الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/213) قال: حدثنا أبو أمية حدثنا محمد بن وهب بن عطية عن الوليدِ بن مسلمٍ قال: حدثنا الأوزاعيُّ عن حسان بن عطية عن أبي منيب الجُرْشيِّ عن عبد الله بن عمر به مرفوعًا .
وهي رواية باطلةٌ، لا تنفعُ عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان .
ذلك أنَّ الأوزاعيَّ قد اختلف عليه في هذا الحديث على ثلاثة أوجهٍ:
فرواهُ الوليدُ بن مسلمٍ عنه عن حسان بن عطيّة عن أبي المنيبٍ الجرشي عن ابن عمر به مرفوعًا .
وخالفه صدقة بن عبد الله السمين، فرواه عن الأوزاعيِّ عن يحيى بن أبي كثيرٍ عن أبي سلمة عن أبي هريرة به مرفوعًا، وقد أخرجَ روايتَه الهروي في «ذم الكلام وأهله» (2/388) والبزار في «مسنده» (2/447) وأبو أمية الطرسوسي في «مسندِه» (ق201- نسخة خطية ضمن مجموع بالعمرية برقم 3837) وعبد الخالق الأطرابلسيُّ في «المعجم» (ص143) .
وخالفهما ثلاثة من ثقات أصحاب الأوزاعي، فرواه عيسى بن يونس وسفيان الثوريُّ وعبد الله بن المبارك ثلاثتُهم: عن الأوزاعيِّ عن سعيدٍ بن جبلة عن طاووس به مرسلًا، أخرج روايتي عيسى وسفيان ابن أبي شيبة في «مصنفه» (4/216) (6/470)، ورواية عبد الله بن المبارك في «الجهاد» (ص89) له.
فهذه ثلاث أوجهٍ للخلافِ على الأوزاعي .
والصوابُ منها ما رواه الجماعة، أي: الوجه المرسلُ، وروايتا صدقة والوليد غلطٌ عليه، أما صدقة بن عبد الله السمين فضعيف، وأما الوليد بن مسلم فعلى ثقته وإمامتِه وتثبته في الأوزاعي فإنه يدلس تدليس التسوية، ولم يصرِّح بالتحديث إلا في طبقة شيخِه، فلا يبعدُ أن يكون أسقط الواسطة بين الأوزاعيِّ وشيخِه حسان بن عطية، فيكون المتابع حقيقة لعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان إنما هو تلك الواسطة المجهولة لا الأوزاعي، ولولا أنه ليس للأوزاعي رواية عن عبد الرحمن بن ثوبان وإن كان معاصرًا له = لقوي القولُ بأن الرواية قد رجعت إلى عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان .
وبهذا الإعلال لرواية صدقة قال دحيم رحمه الله كما حكاه عن أبو حاتم الرازي، ففي «علل ابن أبي حاتمٍ» (3/388) : «سألتُ أبي عن حديث رواه عمر بن أبي سلمة عن صدقة بن عبد الله عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: بعثت بالسيف بين يدي الساعة ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذل ، والصغار على من خالفني ، ومن تشبه بقوم فهو منهم».
قال أبي: «قال لي دُحيم : هذا الحديث ليس بشيء، الحديث حديث الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم» .
وهذا إعلالٌ من دحيم للوجه الذي يرويه صدقة، وتصويب للوجه الذي يرويه الجماعة.
ونحوه البزار رحمه الله، فقال عقب رواية صدقة: «وهذا الحديثُ قد خُولِفَ صدقة في إسنادِه، فرواه غيرُه عن الأوزاعيِّ بغير هذا الإسناد مرسلًا، ولم يُتَابَع صدقة على روايَتِه هذه عن الأوزاعي بهذا الإسناد» .
أما الدارقطنيُّ في «العلل» (9/272) فقد قال: «يرويه الأوزاعي، واختلف عنه؛ فرواه صدقة بن عبد الله بن السمين - وهو ضعيف - عن الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وخالفه الوليد بن مسلم، رواه عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر، وهو الصحيح» .
ولا شكَّ أن قولَه: «وهو الصحيح» أي: وهو الصوابُ من الوجهين، ولا يقصد الصحة المصطلح عليها، وهو يتفق مع دحيم والبزار في إعلالِ رواية صدقة، لكنه يُصِّوب رواية الوليد بن مسلمٍ رغم عنعنته في طبقة شيخ شيخِه ومخالفتِه لثلاثة من ثقات أصحاب الأوزاعيِّ، وفيه نظرٌ.
أضف إلى ذلك؛ فإنَّ الرواي عن الوليد بن مسلم ليس بذاك، فإن محمد بن وهب بن عطية قد قال فيه ابن عديِّ: «له غير حديث منكر»، وقد خولف عن الوليد بن مسلم، خالفه هشام بن عمار وكثير بن عبيد وعمرو بن عثمان، فقد روى ابن حذلم في «حديث الأوزاعي» (ص14) قال: حدثنا أحمد بن المعلى بن يزيد ، قال : حدثنا هشام بن عمار ، وعمرو بن عثمان ، وكثير بن عبيد ، قالوا : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن أبي المنيب الجرشي ، عن عمر به مرفوعًا.
كذا قال: «عن عمر»، ويحتمل كونُه سقطًا، سواءٌ أكان سقطًا او هكذا رووه، فتعصيب الجناية بتسوية الوليد بن مسلم أولى .
والصوابُ من هذه الأوجه الثلاثة ما اتفق عليه الجماعة (عيسى بن يونس والثوريُّ وابن المبارك) عن الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاووس مرسلًا.
وإذا كان ذلك كذلك فلا تكون هذه المتابعة نافعة لعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان؛ لأنها غلطٌ على الأوزاعيِّ.
ولكن هل يكونُ الوجه المُصَوَّب مُقَويًّا لرواية عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ؟
لا يكون كذلك، يمنع منه أن هذا المرسل لا يصحُّ إلى طاووس أصلًا، ذلك أنَّ الراوي عن طاووس هو سعيد بن جبلة، وقد غمزه محمد بن خفيف الشيرازيِّ، فقال: «ليس هو عندهم بذاكَ».
فهذان طريقان قد تبدى لك ضعفهما، طريقُ عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان المسندة، وطريق طاووس المرسلة.
وللحديثِ طريقٌ ثالثةٌ من حديث أنس رضي الله عنها: رواها أبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (1/165) قال: حدَّثَنا أبو بكر محمد بن جعفر بن يوسف ثنا أبو العباس أحمد بن محمود بن صبيح ثنا الحجاج بن يوسف بن قتيبة ثنا بشر بن الحسين الأصبهاني ثنا الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالفني، ومن تشبه لقوم فهو منهم».
وهي تالفة، بشر بن الحسين الأصبهاني صاحب الزبير بن عديِّ متهم، قال البخاري فيه: «فيه نظر»، وقال الدارقطنيُّ: «متروك»، وقال ابن عدي: «عامة حديثِه ليس بمحفوظ»، وقال أبو حاتم: «يكذب على الزبير».
وللحديث طريقٌ رابعة، من حديثِ حذيفة بن اليمان، أخرجها البزار في «مسندِه» (8/179) والطبراني في «الأوسط» (8/179) فقال: حدثنا موسى بن زكريا ثنا محمد بن مرزوق نا عبد العزيز بن الخطاب ثنا علي بن غراب عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي عبيدة بن حذيفة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تشبه بقوم فهو منهم».
وقد أشارَ البزارُ إلى إعلالِه بالوقف، فقال رحمه الله: «لا نعلمه مُسندًا عن حذيفة إلا من هذا الوجه، وقد وقَفَهُ بعضُهم على حذيفة».
وإسنادُها تالفٌ؛ موسى بن زكريا هو التستريِّ؛ وهو متروكٌ؛ كما حكاهُ الحاكمُ عن الدارقطنيِّ، وقد جاءت رواية موقوفة صحيحة عن أبي عبيدة بن أبي حذيفة عن أبيه، تشير إلى إعلالِ هذه الرواية كما قال البزار .
فقد أخرجَ المروزيُّ في «الورع» (ص189) قال: قُرئ على أبي عبد الله وأنا أسمَعُ عن يحيى بن سعيد عن أبي عبيدة قال: دُعِي حُذيفة إلى شيءٍ، قالَ: فرَأى شيئًا من زِيِّ الأعاجِم، قال: فخرج، وقال: من تشبَّه بقومٍ فهو منهم .
وللحديث طريقٌ خامسة، أخرجها سعيدُ بن منصور في «سننه» (2/177) قال: نا إسماعيل بن عياش عن أبي عمير الصوري عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله بعثني بسيفي بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالفني، ومن تشبه بقوم فهو منهم».
وهو ضعيفٌ لإرسالِه، وأبو عمير الصوريُّ اسمه أبان بن سليمان، ترجمَه ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/300)، وقال: «أبان بن سليمان، أبو عمير الصوري، وكان من عباد الله الصالحين، يتكلم بالحكمة» .
فهذه طرقٌ خمسة للحديث، كلُّها ضعيفٌ أو تالفٌ، وقد ذكرها من خرَّج الحديث من العلماء الأكابر؛ وأحسنُ من استفاض في تخريجه الزيلعيُّ في «تخريج الكشاف» (4/229)، والألباني في «الإرواء» (5/109) .
ثمَّ منَّ الله بالوقوف على طرقٍ أخرى، لم يذكرها من خرَّج الحديث من السابقين عليهم رحمة الله ورضوانه.
فثمَّ طريقٌ سادسة، رواها الديلميُّ في «مسندِه» [كما في «الغرائب الملتقطة من مسند الفردوس» (ق190-ب،ق191-أ/نسخة دار الكتب المصرية) لابن حجر] قال:أخبرنا عبدوس إذنًا، وحدثني عنه أبي أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم الزنجاني إجازة، أخبرنا أبو سعد عبد الرحمن بن محمد السمرقندي، حدثني أبو نصر محمد بن عبد الرحمن الشافعي بسمرقند، حدثنا أبو موسى عيسى بن عبدك، حدثنا أحمد بن نصر ، حدثنا أبو مقاتل، عن أبي سهل عن الحسن عن حذيفة رفعَهُ : «لا يشبه الزيُّ الزيَّ حتى يشبه الخلق الخلق، ومن تشبه بقوم فهو منهم».
وإسنادُها تالفٌ؛ فعيسى بن عبدك هذا هو الفرزاميثني، ونسبته إلى محلة من حائط سمرقند، قال السمعاني في «الأنساب» (4/364): «يروي عن أحمد بن نصر العتكي نسخة كبيرة عن أبي مقاتل السمرقندي عن أبي سهل كثير بن زياد البرساني البصري، روى عنه أبو نصر محمد بن عبد الرحمن الشافعي ومحمد بن علي الصفار وعلي القاسم الخطابي المروزي».
وأبو مقاتل السمرقندي هو حفص بن سلم، وقد كذبه ابن مهديّ ووكيع وغيرهما، وقال ابن حبان رحمه الله: «كانَ صاحبَ تقشُّفٍ وعبادةٍ، ولكنه يأتي بالأشياء المُنكرة التي يعلم من كتب الحديث أنه ليس لها أصل».
وللحديث طريقٌ سابعة، أخرجها الحسين بن إدريس الأنصاريُّ في «حديث أبي ذوالة» (ق80/ نسخة خطية بالعمرية رقم 3856) قال: حدثنا أبو ذوالة حدثني أبي عبد العزيز بن مروان عن جده أبان بن سليمان بن مالك الليثي عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من تشبَّه بقومٍ فهو منهم، ومن أحبَّ قومًا حُشِر معهم».
وهو إسنادٌ ضعيف؛ أبو ذوالة الضرير هو أصبغ بن عبد العزيز بن مروان مجهول كما قاله أبو حاتم، كما حكاه عنه ابنه في «الجرح والتعديل» (2/321)، وكذا تابعه الذهبي في «الميزان» (1/270)، وأبان بن سليمان بن مالك الليثي لم أرَ من ترجمَه.
وثمَّ طريقٌ ثامنة للحديثِ من حديث حذيفة بن اليمان أيضًا، رواها الطبراني في «مسند الشاميين» (3/94) قال: حدثنا عمرو بن إسحاق ثنا أبي ثنا عمرو بن الحارث ثنا عبد الله بن سالم عن الزبيدي ثنا نمير بن أوس أنَّ حذيفة بن اليمان كان يرده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تشبه بقوم فإنه منهم».
وفيها عللٌ؛ إسحاق بن إبراهيم بن العلاء شيخٌ «حمصيٌّ» مختلفٌ فيه، وثقه أبو حاتمٍ، وأثنى عليه ابن معين خيرًا، وكذبه محمد بن عوف الطائي، وقال النسائيُّ فيه: «ليس بثقة»، وقال أبو داود: «ليس بشيءٍ»، وعمرو بن الحارث قال فيه الذهبيُّ: «تفرَّدَ بالرواية عنه إسحاق بن إبراهيم زبريق، ومولاة له اسمها علوة، فهو غير معروف العدالة، وابن زبريق ضعيف»، أما ابن حبان فوثقه على قاعدتِه، وشيخُ الطبراني عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي الحمصي لم أرَ مَنْ ترجمَه.
فهذه طرقٌ ثمانية للحديث، لا ترقي به إلى مرتبة الصحة ولا التحسين، وليس فيها ما يرفع إليه النظر إلا طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، ولا تقوم الحجة بها، ولذا صدَّر الإمام البخاريُّ رحمه الله هذا الحديث بصيغة التمريض، وأحسنَ المنذريُّ والزيلعيُّ في تضعيفه.
وللحديثِ شاهدٌ موقوفٌ، رواه عبد الرزاق في «مصنفه» (11/453) عن معمر عن قتادة أنَّ عمر بن الخطاب رأى رجلًا قد حلقَ قفَاهُ، ولبس حريرًا، فقال: «من تشبَّهَ بقومٍ فهو منهم» .
وبين قتادة وعمر بن الخطاب مفاوز.

Comments

  1. ابو المنيب هو أبو المنيب الجرشي صحيح وضعيف سنن ابي داود ( ٤٠٣١ ) وهو ثقة وثقه أحمد بن صالح الجيلي
    ابن حجر العسقلاني
    الذهبي

    ReplyDelete

Post a Comment